ثمة صلة وثيقة بين الفكاهة والمجون، هذه الصلة جعلت علماء النفس يربطون بين الضحك والمسائل الجنسية والإخراجية، وذهبوا إلى أن (المضمار الأكبر الذي تستطيع فيه الفكاهة أن تصول وتجول إنما هو مضمار الوظائف الإخراجية والتناسلية) (سيكولوجية الفكاهة والضحك- د. زكريا إبراهيم، ص83) و(ربما كانت اللذة الكبرى التي يجدها الناس عادةً في الفكاهة الجنسية بصفة عامة إنما هي مظهرٌ لارتياح الأفراد في بعض الأحيان لمخالفة بعض الممنوعات أو التعدي على بعض المحرمات) (المرجع السابق ص 85).
إذا كان ارتباط الفكاهة بالفحش والمجون هكذا كما يصوِّره علم النفس ارتباطًا وثيقًا، فلا عجب إذن أن نجد الفكاهات الفاحشة تنتشر في كتب الأدب انتشارًا واسعًا، حتى صار الفحش مادةً أساسيةً للشعر الفكاهي، ولعل شاعرًا واحدًا كـ"ابن الحجاج" خيرُ مثال لذلك؛ إذ لا تخلو قصيدة من قصائده- على كثرتها- من ذكر الفضلات الإنسانية وما يتعلق بها، معبِّرًا عنها بالألفاظ التي ينبُو عنها الذوق السليم، والعجيب أنه كان رأس مدرسة.
ومما يميِّز مدرسته أنها تبحث عن كل لفظة نابية وسخيفة، وتجعلها صالحةً لأن تكون في الشعر؛ إذ إن "لابن الحجَّاج"- زعيم هذه المدرسة- (القدرة على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة من الألفاظ الفصيحة) (شعر الفكاهة في العراق في القرن الرابع الهجري (ابن الحجاج وابن سكرة) لعناد إسماعيل الكبيسي رسالة ماجستير- كلية الآداب- جامعة عين شمس- 1967م، ص 131) والتعبير الأخير بين المعقوفتين "لابن كثير".
لم يكن أمام المربِّين والناشرين ومَن في حكمهم أيُّ خيارٍ في مواجهة الإغراق والإمعان في الفحش والجري المحموم وراء كل شاذٍّ وخادشٍ للحياء والذوق في الكثير مما وصل إلينا غير تنحيته أو تهذيبه ليصلح للنشر العام؛ لأنه ليس كل ما يصلح ليطلع عليه خاصة الدارسين صالحًا بضرورة الحال لعامة الناس خاصةً النشء والشبيبة، وهو ما يعترض عليه البعض اعتراضًا قويًّا ويعدُّونه اعتداءً صارخًا على التراث الفكري يشوِّهه ويلغي خصائصه الداخلية.
وقبل أن نعرض للأسباب التي كانت وراء انتشار أو ارتباط المجون بالفكاهة يلفت الانتباه أن هناك من نأى بنفسه عن السقوط في هذه الهوَّة التي تتنافى مع الذَّوق والفطرة السليمة "كابن الجوزي" الذي تقلُّ في كتبه- إن لم تكن معدومةً- مثلُ هذه الفكاهة المسرفة في المجون، رغم إفراده الكتب المتخصصة في الفكاهة.
ولذلك نعجب- مع الدكتورة "ثريا محمد علي"- عندما نجد شخصيةً لها مكانتها تتهافت على هذه الفكاهات: (.. وللأسف وبرغم شهرة "التوحيدي" الدينية إلا أن أغلب النوادر الواردة في هذه الليالي نوادر ماجنة، خاصةً نوادر الليلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، ويشير "التوحيدي" إلى هذا الأمر بقوله: ".. وقال مرة: تعال حتى نجعل ليلتنا هذه مجونيةً ونأخذ من الهزل بنصيب وافر...) (فن المُلَح والنوادر بين الفارسية والعربية حتى القرن العاشر الهجري- دراسة نقدية مقارنة لثريا محمد علي- رسالة دكتوراه- كلية الآداب جامعة عين شمس 1988م، ص 122).
لقد تضافرت عدة عوامل وأسباب ساعدت على انتشار المجون في الفكاهة وروَّجت له حتى خرج عن الحدِّ المألوف والمتوقَّع أحيانًا كثيرة، ويمكننا أن نرصد أهم هذه العوامل التي تتمثل في:
1- طبيعة الفكاهة ومحاولتها الدائمة وسعيها الدءوب للخروج عن المألوف لاستثارة الضحك ولو كان على حساب الذوق والقيم، ولو شئنا- تعبيرًا أكثر دقةً- لقلنا إن هذا الخروج عن الحدود والعرف هو الذي يُثير الضحك ويجعل الفكاهة رائجةً، إن مقدرة الفكاهة على كسر الجمود الذي يلفُّ الحياة، ويخرجُنا من المألوف والمعتاد هو الذي يولد الضحك غالبًا.
يعلق الدكتور "شوقي ضيف" على حكايات "ابن سودون" فيقول: ".. فما نلبث حين نقرأها أن نضحك؛ إذ كان يُحسِنُ كيف يتغابى، وهو غباءٌ ينتهي بنا إلى إهمال عقولنا، فنضحك لا سخريةً ولا استخفافًا، ولا كما يقول بعض الفلاسفة لأنه خالف منطقنا وتحوَّل إلى ما يشبه آلة جامدة، بل لعلنا نضحك لأننا نريد أن نكافئه؛ إذ استطاع أن يخرجنا قليلاً من عالمنا، ومَن منَّا يذهب إلى ممثل هزلي ليعاقبه بضحكه على شذوذه، إننا نذهب لنسرَّ ونتمتع حقبةً من الزمن بالانتقال من عالمنا إلى عالمه الذي تنعدم فيه قيمنا المنطقية، وتحلُّ فيه قيم أخرى، تقوم على التباين والشذوذ، ودفع الأفكار من أعلى الشواهق وقد انتكست وتشوشت واضطربت" (الفكاهة في مصر- شوقي ضيف- دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثالثة- 1988م- ص 97).
الإشارة هنا واضحة إلى رأي "هنري برجسون"- تحديدًا- الذي ذهب فيه إلى أن الآلية في نمط السلوك هي مبعث الضحك، وأن الضحك هو عقاب الجماعة لمن يخرج عن تقاليدها أو يشذّ عن مألوفها.
ومع التسليم بصحة ما قال به "برجسون" إلا أن الآلية ليست هي مبعث الضحك الوحيد، وليس العقاب هو مبرِّر الضحك أو غايته، ولكنَّ الضحك غالبًا ما يكون (مسألة فردية تخضع لشعور الفرد نفسه بضرب من الراحة، لا مسألة اجتماعية تخضع للمجتمع، وأنه يريد أن ينزل عقابًا أو ثوابًا بالأشخاص الفكهين) (المرجع السابق- ص 99).
ومن هنا كان كل شذوذ وبُعْدٍ عما هو مألوف مادةً خصبةً، بل أسهل مادة وأيسرها لإثارة الضحك، وليس هنالك أكثر شذوذًا أو خروجًا عن المألوف من المجون والفحش، ولقد سبق أن رأينا علماء النفس يربطون بين الفكاهة والمجون لهذا السبب ولأسباب أخرى.
2- دور الموالي وانتشارهم في فترة تدوين الأدب، وما أشاعوه من خروج على الكثير من التقاليد الإسلامية والعربية، وكذلك انتشار القيان ودور اللهو، فلقد كانت موجة عاتية من اللهو والمجون لها مقوِّماتها الكاملة من منتديات وشعراء مروِّجين، وروَّاد وغيرهم، اجتاحت المجتمع في العصر العباسي؛ إذ (ورث المجتمع العباسي كلَّ ما كان في المجتمع الساساني الفارسي، من أدوات لهو ومجون، وساعد على ذلك ما دفعت إليه الثورة العباسية من حيرة مسرفة، فإذا الفرس المنتصرون يُمعنون في مجونهم، ويُمعن معهم الناس، فقد مضوا يعبُّون الخمر عبًّا، يحتسون كئوسها حتى الثمالة، وحاكاهم من عايشوهم حتى أصبح الإدمان ظاهرةً عامةً، على الرغم من نهي القرآن الكريم عنها، وحضِّه على اجتنابها) (تاريخ الأدب العربي- العصر العباسي الأول- د. شوقي ضيف- الطبعة التاسعة- القاهرة ص 65).
لقد هيَّأ انتشار الموالي صراعًا بينهم وبين العرب، امتدَّت ساحته إلى الفكاهة كأحد الأسلحة الفعَّالة سريعة الانتشار التي لا يعوقها شيء، (ولعل أبرز صراع عرفه هذا العصر وصوَّره أدبه بأشكاله المختلفة الصراع بين العرب وغير العرب مما عرف في التاريخ والأدب بالشعوبية وفي أدب الفكاهة، يُولِع الرواة بحكايات الموالي والعجم- النبط أو الفرس أو غيرهم- معرضين بهم في حساسيتهم الشديدة في قضية النسب والمنزلة الاجتماعية، أو معتزِّين بلهجتهم حينما ينطقون بالعربية ومن ثم موقف المجتمع العربي منهم) (الفكاهة في الأدب العباسي- د. وديعة طه النجم- ص 29).
وفي المقابل (ليس من المستبعد أن تكون شخصية الأعرابي ردًّا من الردود الكثيرة التي ابتدعتها الموالي ليردوا على العرب الذين سخِروا منهم وأداروا كثيرًا من حكاياتهم تعريضًا بشخصياتهم، ومن الطريف- في هذا الصدد- أن أكثر الحكايات التي تعرض بالموالي ومنزلتهم وتحقِّر من شأنهم تأتينا منسوبةً إلى الفترة الأموية أو ما قبلها، وهي فترة السيادة العربية- في حكم جميع المؤرخين تقريبًا- بينما عامة حكايات الأعراب تتناولهم في علاقتهم بالحاضرة العباسية خاصة) (المرجع السابق- ص30).
هذه الآثار الأدبية أمر طبيعي عند التقاء ثقافتين وحضارتين متباينتين، وكطبيعة بشرية، ترى "الأجنبي" مثارًا للدهشة والعجب، بما يحمله من عادات وتقاليد ولغة مختلفة، ولقد كانت تتاح مشاهدة الأقوام الغريبة والعجيبة أمام المسافر الذي يغادر خارج حدود الإسلام، وها هو "العجائبي" يزدهر الآن داخل المدينة الإسلامية.. عجائبي ناتج عن انحراف مقصود عن المعايير القائمة، وهكذا عكست الثقافة العربية نفسها في "ثقافة مضادة"، يمثلها الماجنون والشعوب الأجنبية، والمكدون وحيلُ التاريخ الماكرة) (المقامات- د. عبد الفتاح كيليطو- ص 42).
والحق أن تأثير الاختلاط بين العرب والفرس بدأ مع بداية القرن الثاني للهجرة بصورة واضحة كان المجون واللهو من أهم ملامح هذا التأثير، ينقل الباحث "فتحي معوض أبو عيسى" نصًّا للدكتور "طه حسين" من "حديث الأربعاء"، يقول فيه: "ولكن القرن الأول للهجرة لم يكد ينتهي حتى كان الجيل قد تغيَّر والعهد قد تبدَّل، وحتى كان الاختلاط بين العرب والفرس وهذه الأمم الكثيرة المتباينة في الشام قد عمل عمله، وأخذت تظهر آثاره الكثيرة المختلفة، ومن أعظمها وأشدها خطرًا: المجون وحب اللهو وحرية الفكر والسيرة".
ثم يعلِّق الباحث قائلاً: "لا شك أن تلك الحياة اللاهية العابثة ترفد الأدب الفكاهي بعامة والشعر منه بخاصة لما تستلزمه من ظرف وإيناس وخفة روح ومنادمة طلية" (الفكاهة في الأدب العربي- فتحي معوض أبو عيسى- ص 81).
إن الصلة وثيقة بين المجون والفكاهة، والمجون وانتشاره مرتبط بالموالي وانتشارهم، ولقد بلغت موجة الانحلال الخلقي العاتية ذروتها، ووجدت لها أكبر الصدى في الأدب شعرًا ونثرًا، ولم يمكن بطبيعة الأشياء أن يكون لها مدخلٌ إلا من باب الأدب الفكاهي، الذي أثرى ثراءً واسعًا بفضل هذه الموجة العابثة، إلا أنه قد وقع عليه ظلم كبير بتحمُّله وزرها في الوقت نفسه!! ولا يخفَى أثر هذه الموجة الماجنة في تهيئة المجتمع لتقبل الفكاهات الفاحشة وتشجيعها، والاحتفاء بها!!
3- يرتبط موضوع الفحش والمجون بالذوق العام والبيئة، فلربما كان ما يعتقده البعض خروجًا عن الحياء في مكان أو زمان ما، يكون مألوفًا في زمان ومكان آخر، وهذا المعنى أشار إليه الشيخ "محمد عبده" في شرحه لمقامات (بديع الزمان الهمذاني) حين حذف ما رآه يخدش الحياء منها: "نذكر من هذه المقامة- الرصافية- ما لا هجر فيه ولا عيب يلحق قارئه، ويضع من شأن ناقله، فإن لكل أيام كلامًا، ولكل مقال مقامًا وندع ما يخُجل من ذكره ولا فائدة من نشره" (مقامات بديع الزمان الهمذاني- شرح الشيخ محمد عبده- القاهرة- 1988م- أخبار اليوم- ص 157)، ويكرر هذا المعنى: "... لعدم الفائدة فيها، مع وجود ألفاظ تنافي آداب هذه الأيام" (المصدر- السابق ص 165).
وإذا كان هذا الموقف قد واجه استنكارًا شديدًا من البعض فإننا نلحظ دقة "الشيخ محمد عبده" حينما أكد منافاة ما حذفه لآداب (هذه الأيام)؛ إذ إنه (لكل أيام كلامٌ)، فالعرف هو الفيصل في تحديد مدى قبول الألفاظ أو عدم قبولها، وهو أمر يعرفه علماء اللغة؛ إذ إنه (أحيانًا تبتذل بعض الألفاظ ويمجُّها المجتمع ويعافها الذَّوق، ومن الألفاظ الدائمة التطور والتغيُّر تلك التي تشير إلى التبوُّل والتبرُّز والعملية الجنسية وأعضاء التناسل، فلا يكاد اللفظ منها يشيع حتى يمجَّه الذَّوق الاجتماعي، وتأباه الآداب العامة فيستعاض عنه بآخر من اللغة نفسها، أو من لغة أجنبية) (التطور اللغوي.. مظاهره وعلله وقوانينه- د. رمضان عبد التواب- مطبعة الخانجي- الطبعة الثالثة- القاهرة- 1990م- ص 201)، ولهذا السبب تتجدد هذه الألفاظ بصورة دائمة.
يَذكر الدكتور "علي الراعي" أن الألفاظ الصارخة والبذيئة هي من تراث المسرح الشعبي من عهد "ابن دنيال" حتى الآن، وهي كذلك من تراث الكوميديا الهابطة ابتداءً من اليونان، ثم أردف قائلاً: "على أن من الواجب أن ننبِّه إلى أن كثيرًا مما يعتبر اليوم نابيًا لم يكن كذلك منذ نصف قرن، ذلك أن الأعضاء المستترة للجسم والإشارة إليها، وذكْر العملية الجنسية، ليس موضع حظر صارم في حياة الطبقات الشعبية، مثلما هو في حياة الطبقة الوسطى مثلاً) (مسرح الشعب- د. علي الراعي- دار شرقيات- القاهرة- الطبعة الأولى- 1993م-ص45).
وإذا كان العرف يتغيَّر بهذه السرعة في نصف قرن أو أقل من ذلك فكيف يكون اختلاف الأذواق الاجتماعية والعرف منذ فترة تربو على قرن من الزمان؟!
ونحن هنا لا ننفي وجود الفحش والمجون في الأدب الفكاهي القديم، ولكنَّ استجلاء الأمر من جميع جوانبه قد يقلِّل من دهشتنا لانتشار هذا اللون وشيوعه، بالإضافة إلى أننا نحاول تحديد أهم الأسباب التي ساعدت على هذا الانتشار.
4- ربما يكون من أهم العوامل التي ساعدت على ارتباط الفحش بالأدب الفكاهي وانتشاره فيه بصورة مبالغ فيها أن النوادر والفكاهات الماجنة أصبحت تقليدًا فنيًّا أكثر منه أيَّ شيء آخر، بمعنى أن ذكرها لا يعني بالضرورة القصد إلى الفحش أو الخروج عن الذوق العام، أو يعني فحش قائلها بالضرورة، ولكن ربما كان الأمر لا يتعدَّى التقليد الفني، إن جاز التعبير، خاصةً إذا وجدنا أن معظم هذه النوادر والمُلَح قد أوردها "الجاحظ" أول من أبدع في هذا اللون الفني، وأرسى قواعده، وبرع فيه، وكان- أي "الجاحظ"- المصدر الأساسي الذي نقل عنه الجميع.
قد يعضِّد هذا الرأي ما ذهب إليه "العقاد" عند مناقشته ظاهرة الغزل المذكر عند "أبي نواس" في قوله: ".. ولا بدَّ من الرجوع بشيء من مبالغات "أبي نواس" في الولع بالغلمان إلى البدعة التي نشأت في زمانه، ولم تكن لها سابقة في الأدب العربي قبله، فلم نسمع عن شاعر من الجاهليِّين والمخضرَمين أنه نظَّم الشعر غزلاً بالمذكر، ولم يكن غزل "ابن مناذر" قبيل "أبي نواس" بقليل على هذا التهتك والمجون، الذي فشا حوالي منتصف القرن الثاني وقبل نهايته، ففي هذه الفترة كان غزل المذكر بدعةً يلهج بها من لم يكن من أهل الفسوق والمجانة، وما كان من شيم "أبي نواس"- وهو المطبوع على العلانية والتحدِّي- أن يشهد البدعة ولا يتمادى فيها، حتى يسبق مبتدعيها، فالإفراط في غزل المذكر لا يحسب كله على "أبي نواس" ولا يتخذ كله دليلاً على نوازعه وأهوائه" (أبو نواس "الحسن بن هاني"- لعباس محمود العقاد- القاهرة- بدون تاريخ- ص 131).
قد يتبادر إلى الذهن أن هذا رأيٌ لأحد المحدثين تخيَّله، ولكننا نجد تصورًا مماثلاً، كان واضحًا تمام الوضوح في ذهن أحد القدماء دفع به عن نفسه تهمة الزندقة؛ يشير إليه الدكتور "يوسف خليف" في النصّ التالي: ".. والزندقة عند شعراء هذه المدرسة على صورتين: استهتار بالدّين وعقائده، دفعهم إليه إغراقهم في الشراب وإدمانهم له، فهي لون من عبث السكارى وعربدتهم، أو على حدِّ تعبير "آدم بن عبد العزيز": "كنت فتىً من فتيان قريش أشرب النبيذ وأقول ما قلته على سبيل المجون، والله ما كفرت بالله قطّ، ولا شككت فيه"، والصورة الأخرى: زندقة دينية خالصة دفعهم إليها شكّهم في الإسلام، وإلحادهم، واعتناقهم المانوية، أو غيرها من ديانات الفرس) (حياة الشعر في الكوفة- د. يوسف خليف- دار الكتاب العربي للطباعة والنشر- القاهرة 1968م- ص 618)، وهكذا نجد تفريقًا بيِّنًا بين التقاليد الفنية والعقائد الدينية.
وبهذا التفريق والفصل يمكن استيعاب التجاور والتلازم بين أبواب الأخلاق والآداب وبين أبواب الفكاهة، بما تحتويه من فحش ومجون في كتب التراث الموسوعية، بدون أي غضاضة أو أدنى استنكار، مع ملاحظة ما كان يتمتع به كل "ما يُرْوَى" من احترام وأحقية في "التدوين".