فلما كانت الليلة التسعون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة ؛ قالت فقرزاد:
بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أن التاجر علي المصري ابن حسن الجوهري البغدادي بعد أن نفد ماله، وجاعت زوجته وعياله، وتنكر له أصدقاء السوء والفساد، وسجن العسكر المرأة الصالحة التي أعانتهم بالمؤنة بالزاد، عرف أن الرحيل وجب وليس منه مهرب، فخرج من بيته ولم يعرف أين يقصد أو يذهب، وما زال ماشيًا حتى وصل إلى ميناء بولاق، ورأى مركبًا مسافرةً إلى دمياط عليها بعض الرفاق، ورآه رجل كان بينه وبين أبيه صحبة، وصداقة وأخوة ومحبة؛ فسلَّم عليه وقال: أين تريد؟
قال: أريد دمياط فإن لي أصحابًا أُريد زيارتهم.
فأخذه الرجل إلى بيته واستضافه بالترحاب والتقدير، وأكرمه وعمل له زادًا وأعطاه عددًا من الدنانير، وأنزله المركب المتوجهة إلى دمياط مع المسافرين، فلمَّا وصلوا طلع من المركب وسار مع السائرين، ولم يعرف أين يقصد حتى رآه رجل من التجار، فحن عليه وأخذه معه إلى الدار، فمكث عنده مدة، ثم قال في نفسه: إن هذه مصيبة وشدة! وإلى متى هذا القعود فى بيوت الناس، أليس عندي مشاعر وإحساس؟!!
ثم إنه طلع من بيت ذلك التاجر، فرأى مركبًا متجهًا إلى الشام فركبه وسافر.
فلمَّا صعد على سطح المركب، ذهل وتعجب، فقد كانت المركب مهترئة قديمة، ليس فيها لوح واحد ولا خشبة سليمة، ورأى الناس متكدسين بصورة مزرية، وأحوالهم جميعًا مخزية، ولأنه يعرف أن أغلبهم من التجار الموسرين، والشباب المغامرين؛ قال لمَن بجانبه: ما هذا الوضع المهين، ألا تخافون على حياتكم، ألم تدفعوا الكثير من أموالكم؟؟؟!!
فنظر الرجل إلى الشمال وإلى اليمين، ثم قال له بصوتٍ خافتٍ حزين: اخفت صوتك يا مسكين، وإلا صرت من المساجين، أو طعامًا للحيتان، فالمراكب كلها مِلْكٌ لنديم السلطان، ولا يستطيع مُساءلته إنس ولا جان!
فتذكر التاجر علي المصري بن التاجر حسن الجوهري البغدادي ما حدث له مع الأمير، وكيف ضاعت الأموال والجواهر والدنانير، فصرخ: هذا وضع خطير!
فنظر إليه جميع المسافرين، فقال: هذا المركب لا يليق بالآدميين، ولا يستحق ما دفعناه من المكوس والدراهم، وحاله ينذر بخطرٍ داهم!
ولم يكمل كلامه المسكين، حتى أحسَّ بيد رجلٍ بدين، وهي تصفعه صفعةً أُغشي عليه بعدها، ولكنه أفاق حين زال أثرها، وتقدَّم كبير العسس وقال: كل شيء عندنا يحكمه العقل، وهذا الشاب يبدو أنه جاسوس مدسوس، من اليهود والمتطرفين والشيوعيين والمجوس، ينكر إنجازات مولانا السلطان، وما تحقق على يديه من استقرارٍ ورخاءٍ وأمان.
ولما جاء كبير العسس على ذكر السلطان، انتابته قشعريرة لاحظها كل إنسان، وعلا صوته حتى اهتزَّ المكان؛ ولم تتحمل المركب كل هذه الجلبة والضوضاء، فتفككت ألواحها وهوت في الماء، وتحوَّلت الأصوات، إلى استغاثات الغرقى والأموات، الذين تقاذفتهم الأمواج، وبلعهم الماء الأجاج.
وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.