فلما كانت الليلة التاسعة والثمانون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة، قالت فقرزاد:
بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أن التاجر علي المصري, ابن حسن الجوهري البغدادي نفد كل ما يملك من النقود والجواهر، ولم يبقَ عنده شيء يملكه من الأموال والمتاجر، إلا البيت الذي هو فيه، فصار يقلع ما به من الأخشاب والرخام، ويتصرف فيها إلى أن أفناها بالتمام، ونظر في نفسه فلم يجد عنده شيئًا يحتاج إلى بيت غير زوجته وولده وابنته، ولم يبقَ عنده خدم أو غلمان؛ فأخذ له قاعةً في بعض الحيشان، وسكن فيها بعد العزّ والدلال، وكثرة الخدم والمال، وصارَ لا يملك قوت يومه، ولا يعرف الراحة في قيامه أو نومه، فقالت له زوجته: لم تسمع قولي ولم تحفظ وصية أبيك، ولكن من أين يأكل الصغار؟! وهل يصومون الليل والنهار؟! قم وطُف على أصحابك أولاد التجَّار، لعلهم يعطونك شيئًا نتقوَّت هذا النهار.
فقام وتوجَّه إلى أصحابه واحدًا بعد واحد، فكانوا ما بين شامت وحاقد، فمنهم من توارَى منه، ومنهم من أسمعه ما يكره من الكلام المؤلم، ومنهم من لفَّق له قضية (إزعاج الأعيان)، ولم يعطه أحد منهم شيئًا، فقامت زوجته إلى الجيران، لتطلب شيئًا يتقوَّتون به، فتوجَّهت إلى امرأة كانت تعرفها في سابق الأيام، فلما دخلت عليها ورأت حالها قامت وأخذتها بقبول وبكت وقالت لها: ما الذي أصابكم؟! وما الذي غيَّر أحوالكم؟!
فحكت لها جميع ما كان، وتقلب الحال والزمان، فقالت لها: مرحبًا بك وأهلاً وسهلاً، فجميع ما تحتاجينه سأُوفِّره لك وعندي ستجدينه.
فقالت لها زوجة التاجر علي المصري: جزاك الله خيرًا، ثم إن المرأة أعطتها ما يكفيها هي وعيالها مؤونة شهر كامل، دون ثمن أو مقابل، فأخذته وذهبت إلى عيالها، فلما رآها زوجها بكى، وقال لها من أين لك ذلك؟! فقالت له من فلانة وحكت له الحكاية، فقال لها زوجها: أما وقد صار عندك هذا فإني متوجِّه إلى محلٍّ أقصده، لعل الله تعالى يزيح عنا الهمَّ ويبعده، ثم أخذ بخاطرها وقبَّل أولاده وهمَّ بالخروج من الباب، ومقصده الأخذ بالأسباب!!
غير أنهم في هذه اللحظة سمعوا جلبةً وضوضاء، فنظروا فإذا بعسس أمن مولانا أمير الأمراء، ومعهم عساكر وخيول، وهم يقرعون الطبول، يجرُّون المرأة التي أعطت زوجة التاجر علي المصري بن حسن الجوهري البغدادي الطعام والمؤونة، وقد كبَّلوها بالقيود والسلاسل الملعونة، في مشهد اقشعرت منه الأبدان، وانفطر له قلب كل إنسان!!
فتعجب التاجر وزوجته وجميع أهل الحي؛ لما يعرفونه من صلاح هذه المرأة وزوجها التقيّ، غير أن الجميع لم يستطِع أن يعترض أو يبدِيَ أيَّ تعاطف معها، لخطورة الموقف وبطش العسس وعساكر مولانا السلطان حفظه الله!!
وعندما وصل العساكر بالمرأة إلى وسط الحي وقفوا واصطفَّت الخيول، وقرعوا الطبول، وتقدم كبيرهم وكان شرسًا عنيفًا، وقال: إن هذا عقاب من يعصي فرمانًا سلطانيًّا شريفًا، فحدثت ضجة عظيمة، وقالوا: ماذا فعلت هذه اللئيمة؟!
فقال: عصت الأمر السلطاني، بعدم التبرُّع بالأقوات والأموال النقدية، إلا من خلال القنوات السلطانية، والطرق الشرعية، وقد ضَبَط أحد رجال الدورية هذه المجرمة وهي تتبرَّع دون إذن، فحقَّت عليها العقوبة بالجلد والسجن!! وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.