باكستان بلد فقير، حكمه مدنيون وعسكر، شهد دائما حياة سياسية مضطربة منذ انفصاله عن الهند عام ١٩٤٧، ولم تكن استقالة مشرف إلا فصلاً من مسلسل طويل لم يصل إلي خاتمته بعد.
ومنذ أطاح برويز مشرف بحكومة نواز شريف بانقلاب عسكري جري عام ١٩٩٩، والبلاد تشهد احتجاجات سياسية متصاعدة، وصلت إلي ذروتها العام الماضي بعد قيام مشرف بعزل القاضي محمد شودري من منصبه، واغتيال رئيسة الوزراء السابقة بي نظير بوتو في ديسمبر من العام نفسه.
واعتبر كثيرون أن باكستان دولة صنعها العسكر، وهو، جزئيا، صحيح، إلا أنه لا يعني غياب النخب المدنية والسياسية عن حكم وتحديث البلاد، خاصة حزب الشعب، الذي قاده الراحلان ذوالفقار علي بوتو وابنته بي نظير، وكانت أخطاء النخب السياسية وصراعاتها الثأرية وغياب التقاليد المؤسسية والديمقراطية عن الدولة الباكستانية الناشئة، من أسباب تدخل الجيش بصورة مباشرة في المشهد السياسي.
وإذا كانت الانقلابات العسكرية في باكستان لم تجلب الديمقراطية ولا الرخاء الاقتصادي للشعب الباكستاني، وكانت في المجمل وبالا علية، إلا أنها كانت أحد أعراض أزمة النظام السياسي أكثر من كونها أحد أسبابها.
ومع ذلك اتسم المشهد السياسي في باكستان، خاصة في الأعوام الأخيرة، بالحيوية الشديدة، ونجحت القوي والأحزاب الإصلاحية، ومنظمات المجتمع المدني في أن تفرض علي النظام الاستبدادي إجراء انتخابات حرة والقبول برئيس حكومة معارض للرئيس، وإعادة القضاة المفصولين إلي عملهم.
والمفارقة أن الرئيس الباكستاني المستقيل كان أفضل من كثير من الحكام العرب، فبقي في السلطة تسع سنوات فقط أخطأ في الكثير وأصاب في القليل، واستجاب في النهاية للضغوط الشعبية وأجري انتخابات حرة، ولم يعاند ويكابر ويستمر في الخطأ (أي في الحكم) حتي آخر رمق.
وحين يقارن هذا الوضع بالحالة المصرية، فسنجد أن مصر عرفت حراكا سياسيا محدودا في ٢٠٠٥، استهدف لأول مرة رئيس الجمهورية، رافضا تمديد ولايته ورافعا شعار حركة كفاية الشهير «لا للتمديد.. لا للتوريث»، الذي سرعان ما خفت، وتعثرت معه الحركة، وتبعثرت القوي الإصلاحية، وخسرت بامتياز معركة ربيع الإصلاح والديمقراطية، التي ولدت في ٢٠٠٥ واحتضرت في ٢٠٠٨.
والحقيقة أن هناك فروقات ثقافية وسياسية كبيرة بين مصر وباكستان، فالأولي تعيش علي ضفاف دولة نهرية مركزية يصعب علي الناس والحركات الشعبية فيها مواجهة الحكام وتغيرهم، كما أن الدولة الحديثة في مصر تأسست منذ أكثر من قرنين علي يد محمد علي، في حين أن الدولة الباكستانية «نشأت» منشقة عن دولة عريقة هي (الهند)، وعمرها فقط ٦٢ عاما.
هذا الوضع جعل هناك قوة لكل «المنشقين» عن الدولة في باكستان من جماعات إسلامية وقوي ليبرالية إصلاحية، وانقلابيين، علي عكس الحالة المصرية التي أعطت الدولة للفرعون القابع علي قمة هرم السلطة حصانة خاصة وحماية استثنائية، حتي لو كان محدود الكفاءة معدوم الخيال، ومهما بلغت عيوبه وخطاياه.
والمؤكد أن الحراك السياسي الذي شهدته مصر مؤخرا كان محدودا، مقارنة بما جري في باكستان، كما أن وضع القوي السياسية المصرية أسوأ بكثير من الوضع السيئ للقوي السياسية الباكستانية، بشكل يجعل قدرتها علي تغيير الأوضاع السياسية في مصر شبه مستحيل.
ومع ذلك فإن هذا الوضع لا يعني أن فرص التغيير في مصر منعدمة، إنما يزحزحها إلي مكان آخر خارج كل القوي والمؤسسات المنظمة، فلا الإخوان المسلمين تيار إصلاحي قادر علي إحداث أي تغيير، ولا حزب الوفد الإصلاحي قادر علي أن يلعب دوراً سياسياً مثل حزب الشعب في باكستان، ولا باقي مؤسسات الدولة في وضع يجعلها قادرة علي أن تبادر بطرح أي مطالب إصلاحية من أي نوع..
فالعجز والجمود وأحيانا التبلد أمور تتمتع بها عن جدارة المؤسسات الحزبية وغير الحزبية في مصر، وتجعل التغيير عبر الفوضي والاحتجاجات العشوائية هو السيناريو الوحيد.
والحقيقة أن فشل العمل السياسي المنظم والمؤسسي في مصر يرجع إلي أن النظام الحاكم بلا اختيارات، ويسير أمور البلاد بالقطعة وباليوم، وفرض مناخاً من العشوائية والفوضي قضت علي أي عمل سياسي منظم، فأنهي دور الأحزاب، وجري تفريغ النقابات العمالية من كوادرها، ليدير البلاد بسلطة الإدارة وسطوة الأمن،
وأصبحت الساحة السياسية الشرعية نموذجا نادرا للفراغ والفوضي، وهو الأمر الذي لم ينجح فيه مشرف، لأنه، ببساطة، لديه مشروع سياسي ناطح به خصومه السياسيين، وحاول أن يفرضه بطرق غير ديمقراطية وفشل، وظل أفضل حالا من الوضع المصري الذي اتسم بغياب أي رؤية أو مشروع سياسي من أي نوع.
وتصبح مصر معرضة لأن تشهد تغييراً سياسياً عبر تراكم احتجاجات اجتماعية عشوائية، يمكنها أن تؤثر في تركيبة الحكم الحالي، وتقضي علي مشروع التوريث، ولكنها لن تكون قادرة علي إسقاط النظام، إنما فقط تغيير معادلات الحكم، لأنه حين يكون بديل النظام هو الفوضي، وحين تصبح الاحتجاجات العشوائية هي حزب المعارضة الرئيسي، يصبح من المهم التفرقة بين الدولة ونظامها من جهة، وبين الحكم بدائرته الثلاثية الضيقة من جهة أخري، ويصبح الحفاظ علي مؤسسات الدولة علي ضعفها وترهلها أفضل بكثير من خيار الفوضي والتحلل.
والحقيقة أن حدود تجمعات «الإصلاح العشوائية» في مصر تقف عند الضغط علي النظام من أجل أن يغير فقط في معادلة الحكم، بصورة تجعل البديل - كما هي العادة - من داخل النظام ومن قلب مؤسسات الدولة.
والمؤكد أن هذا البديل غير محدد المعالم، ولا توجد قوي أو مؤسسة منظمة وراءه، ولكنه سيكون استجابة اضطرارية لضغوط الاحتجاجات الاجتماعية ولمخاطر الفوضي والعشوائية والتحلل الداخلي. فالحكم العشوائي الذي غيب القانون وأنهي دور المؤسسات يواجه تحديات من نفس طبيعته: احتجاجات عشوائية، بلطجة وعنف، مافيا جديدة تسمي «رجال أعمال».
وإذا كان من المؤكد أن الوضع السياسي في مصر أسوأ من باكستان، إلا أنه لا يوجد في مصر رئيس يمكن أن يغادر السلطة بحكم السن أو التعب أو الملل، لأن السلطة الفرعونية لا تسمح بمجرد التفكير في هذه الأشياء، وبما أن الشعب المصري لم يتحرك مثل شعوب كثيرة من أجل الإصلاح والديمقراطية، فعليه ألا يتوقع أن يستقيل رئيسه أو حتي يكون بديله من اختيار الناس، إنما عليه الدعاء بألا يكون البديل هو توريث الحكم، وأن يكون الرئيس القادم لديه ميول إصلاحية وإحساس بهموم الناس، ويعرف أنه يحكم بلداً عريقاً عاش فترات صعبة، ولكنه الآن يعيش فترته الأسوأ والأصعب منذ قرون.