وانقَشَـعَ الظَّـلام....
أ/ أيمـن بن أحمـد ذوالغـنى
قدرًا لقيتُه على غير ميعاد، ورأيت في مُخايله شابًّا ذكيَّ القلب، متوقد الذِّهن، صادق الإيمان.. ولما عرفتُ أنه من البرازيل، وأنه من أسرة نصرانية كاثوليكية، طلبتُ إليه أن يقصَّ عليَّ خبر هدايته واهتدائه، فكانت هذه الكلمات.....
ما زال الشعورُ بالغُربة والوَحدة يخيِّم عليَّ ويَلفُّني بأثوابه الدكناء .. الجميعُ من حولي في عالم من الخشوع والسكينة، وأنا في دُوَّامة من التِّيه والضَّياع !! كنتُ أجيلُ طرفي أتأمَّل في وجوههم واحداً واحداً .. فأراهم قانتين وادعين، كأنهم الحُمْلان الأليفَة ..
هناك يقفُ أبي يشاركُ في هذا المشهد الـمَهيب .. يحملُ بين يديه نسخةً من الكتاب المقدَّس، ويرتِّل ترتيلَ الملائكة العابدين، كنت أصوِّب النظرات إليه، وأتفرَّسُ في قَسَمات وجهه، وقد طأطأ رأسَه خشوعًا، وثبت في مكانه كسارية أو عَمود .. وتُسرع إلى مخيِّلتي صورتُه خارج هذا المكان .. ما أبعد البونَ بين الصورتين، شتانَ بين ما هو فيه الآنَ من هُدوء وسَكينة، وبين صورته وقد لعبت الخمرة اللعينةُ برأسِه، وأخذ يَهْذي ويسبُّ ويشتم ويعتدي على أمِّي المسكينة بالضَّرب المبرِّح، على مَرأى مني ومن إخوتي .. كم تؤلمني دموعُ أمي حين أراها تترقرقُ في عينيها، وتنهمرُ على وَجْنَتَيها، لطالما حزَّت في قلبي آلاماً .. وتركت في نفسي أحزاناً .. ولطالما فكَّرتُ أن أقومَ إلى ذاك الذئب المفترس أدفَعُه عن أمي المقهورة الكسيرة ..
ولكن ما للذئب تحوَّل إلى هرَّة وديعة لطيفة .. أيكونُ كذلك ساعةً واحدة من يوم الأحد، ويكون سائرَ الأسبوع ذئباً عَرِماً ضارياً ؟!!
وأُبصر في الناحية الأخرى ذاك الرجلَ الخسيس .. إنه أستاذي في المدرسة .. لَشَدَّ ما أكرهُه، وكيف لا أُبغضُه وقد اعتدى على صديقتي الحميمة واغتصبَها اغتصابَ المجرمين؟! .. حقًّا إنه رجل نذل، بل من العار أن يعدَّ أمثالُه في الرجال .. ولكن ما بالُه بين يدَي الراهب كالناسك المتبتِّل !! أيكون ناسكاً عابداً في ساعة واحدة من ساعات الأُسبوع، وفي سائر الأوقات قَذراً عاهراً مفسدًا !!
أيرضى الربُّ يسوعُ بهذا ؟!.. أيقبل أن يكونَ الإنسانُ طاهراً في ساعة واحدة، ثم يكون سائرَ دهره لصًّا مجرماً فحَّاشاً ..!!
خرجَ من الكنيسة بخطًا وئيدة .. يمشي كالمُهَوِّم بين الصَّحْو والنوم، والأفكارُ تعتلجُ في رأسه وتصطَرع !! أيُّ دين هذا الذي يدعُ للإنسان الحبلَ طليقاً يَعيثُ في الأرض فساداً، فإذا دخل الكنيسةَ صار طاهراً تقيًّا رصيناً ..
ألقى بجسده المنهَك على الأريكة القديمة، ومدَّ رجليه على الطاولة أمامه .. كان بحاجة إلى ما يخرجه من هذا الشُّعور الغريب المطبِق عليه .. تناولَ جهاز التحكُّم، وضغط زِرَّ تشغيل التِّلفاز، عسى أن يجدَ فيه ما ينتشلُه من همومه وأحزانه، فإذا فيه بَرنامجٌ غنائي لفرقة (LEGIAOURBANA) [ أولاد الشوارع ]، من فِرَق الـ (( فري روك )) (Rock)، كانت الأغنيَّة للمطرب البرازيلي المتمرِّد المُلحد (RENATO RUSSO) ريناتو روسو .. وهي من كتابته وأدائه، يقول فيها :
لعلِّي أومن أن الربَّ واحد ..
ولكن الربَّ ثلاثة ..
وأنتم قتلتُم ربَّكُم ..
أليس إثماً أن تقتلوا إلهكم ؟!
هزَّت كلمات الأغنيَّة نفسي هزًّا عنيفاً، وزادتني اضطراباً وضياعاً ..
وداخلتني شكوكٌ كبيرة، وحاكت في صدري همومٌ وهموم، ورأيتُني كالغارق في بحر لُجِّيٍّ، يَغشاه موجٌ، وتتقاذفه أمواجٌ، صرتُ أسأل نفسي السؤال نفسه: أيصحُّ أن يكون الربُّ واحداً وثلاثة في آن ؟! وكيف يُقتَل الربُّ ؟! وأنَّى له أن يكون ربًّا وهو عاجزٌ أن يدفعَ عن نفسِه الأذى ؟!!
كان القسِّيس يردِّد على مسامعنا: إن الربَّ معنا، إنه قريبٌ منا .. وكنتُ أبحثُ عنه في جَنَبات روحي ونفسي، فأشعرُ أنه بعيدٌ عني كثيراً، وأنني بعيدٌ عنه أكثر .. كنتُ بحاجة شديدة إلى أن أتوجَّهَ إلى ربي وأكلِّمَه وأدعوَه، وأدنوَ منه وأناجيَه، وأبثَّه أشجاني، وأُلقيَ على عَتَباته آلامي .. ولكنَّ الآباءَ والقَساوسة يأبَوْن إلا أن يكونوا واسطةً بيني وبينه .. أليس الربُّ ربًّا للجميع، فما بالُ الرُّهبان يَحولون بيننا ؟!!
لم يكن يُبغض شيئًا بغضَه للفساد؛ وذلك أنه فتح عينيه على الدنيا وصورُ الفساد بأنواعه تتراقصُ من حوله وتُحدِق به.
تكوَّنت في نفسه قناعةٌ راسخةٌ أن الله لا يرضى لعباده الضياعَ والفُجور، وأن الدينَ يجب أن يكونَ مثابةً وملجأ أمينًا، تجد البشريةُ فيه العدلَ والسعادة والأمان، في كلِّ زمان ومكان، وأن الربَّ لا بدَّ أنه قريبٌ من كل قلب، يناجيه ويكلِّمه، ليس بينهما واسطةٌ ولا ترجمان..
وعلى حداثة سنِّي بدأتُ رحلةً شاقَّة متعبة، بعزيمةٍ ماضية حذَّاء .. وروح لا تعرفُ الكَلال ولا المَلال .. طَفِقتُ أتردَّد إلى المكتبات الحكوميَّة والخاصَّة، أطَّلع على كتب الأديان والملل، وأتتبَّع خبر كلِّ دين أسمع عنه .. عزمتُ على ألا أدعَ دينًا إلا وأفحص عن كُنهِه وحقيقته، حتى أجدَ الدين الحقَّ الذي يجلو ظَلام قلبي وينير عَتَمَة فؤادي ..
قرأتُ في كتب الديانة اليهوديَّة .. وكتب الديانات الأُخرى، قديمها وحديثها .. من بوذيَّة، وزردشتيَّة، وديانة شنتويزم، وديانة هاريكريشنا .. وغيرها وغيرها.
كانت فطرته تعافُ كلَّ ما يقرأ، وتصيحُ به: ليس الطريقُ هنالك .. اليهودية تصوِّر الربَّ بصور لا تليقُ بالبشر !! والدياناتُ الأخرى قائمةٌ على الخرافةِ والباطل، والانفصالِ عن المجتمع والواقع .. كان كمن يتعلَّق بحبال الهواء، أو يستمسك بقشَّة لينجوَ من الغَرق في المحيط الهائج.
وما زال يبحث ويقرأ حتى وقفَ على إشارة إلى دينٍ من الأديان يسمَّى (الإسلام) بُعث به رجلٌ من العرب اسمه محمَّد،لم يكن سمع عن هذا الدين قطُّ، ولم يكن يعرفُ عن العرب شيئاً، وأنَّى لطالب في بداية المرحلة الثانوية أن يحيطَ بهذا ؟! بحثَ في الكتب عن شيء يعرِّفُه بالإسلام، ولكن بلا جَدوى .. لم يعرف إلا أن للمسلمين كتاباً اسمه "القرآن"، يتضمَّن شريعتَهم وأحكام دينهم .. وبعد بحث طويل، ولأْيٍ شديد، عثر على نسخة منه باللغة البرتغاليَّة في إحدى مكتبات مدينته، ولضيق ذات يَده اضطُرَّ - على كُرهٍ شديد – إلى العمل في محلٍّ لبيع الخمور وشطائر الطعام.. وما إن حصَّلَ قيمته حتى طار إلى المكتبة، وخرجَ متأبِّطه، متشوِّقاً إلى معرفة دين الإسلام..
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفُسهم كانت هذه الكلماتُ أولَ ما وقع عليه بصَري في القرآن، فشعرتُ وكأن قبسةً من نور أضاءت في روحي الجَرداء .. أجل: على الإنسان أن يغيِّر ما في نفسه أولاً؛ من حبٍّ للباطل والظُّلم والشهَوات، حتى يغيِّرَ الله له واقعَه المظلمَ البائس .. إنه لكلامٌ حقٌّ ..
أقبلتُ على الكتاب إقبال الظامئ الصادي المتشَوِّق إلى جُرعة ماء .. وقرأتُه كاملاً، كلمة كلمة، في خمسة أيام .. كانت الأنوارُ تضيء في قلبي شيئاً فشيئاً، كلما أمعنتُ في قراءته .. وكنت أسمع وَجيبَ قلبي وكأنه يُناديني: هذا ما كنتَ تبحثُ عنه، هذا هو الدين القويمُ الذي يملأ نفسَك، ويُقنع عقلَك، إنه البلسَم المداوي لجراحات النفوس الضَّائعة التائهة ..
آهٍ يا قلبي الكليم !! كم كنتُ أََرْثي لك .. ها قد أسفَرَ فجرُكَ بعد ليل بهيم، فعليكَ به، إيَّاك أن يُفلت منك .. وها قد انكشفَ الصِّراطُ أمامك فاسلُك فيه، ودعك من بُنيَّات الطريق ..
خمسُ سنوات غَبَرَت على إسلامي .. عرفتُ فيها راحةَ القلب، وطُمَأنينةَ الفؤاد، لم أجد في الإسلام ما يخالف الفطرةَ السوية أو يتنكَّبها، بل كلُّ ما فيه يحفَظُها ويغذِّيها، وأهمُّ ما شدَّني إليه أنه دينُ التوحيد الخالص، فهو يحرِص كلَّ الحِرص على أن تكونَ أعمال العبد خالصةً لله، لايَشرَكُه فيها أحدٌ من خَلقه، أيًّا كان ذلك المخلوق، ومهما سَمَت منزلتُه، فالخالقُ العظيم سبحانه هو وحدَه المستحقُّ أن يُعبد وأن يقدَّسَ له .. فاللهم لكَ الحمدُ على أن هديتَني للإسلام، وأسألكَ أن توفِّقَني لدعوة الشاردين التائهين إليه، وألا تحرمَ أحدًا من هذا الخير العظيم، يا كريم يا كريم.