نظرت إلى جهاز الفيديو نظرة تحدٍ وتحفز ... هل أنا من شدة توتري فقدت تركيزي ولم أعد أعرف كيف أضبط الجهاز ... دخل زوجي في هذه اللحظة مسرعاً فلما وجدني على ركبتي على الأرض ابتسم وقد استرد شيئاً من هدوئه وقال:
- أنت لسه عايشة في زمن الفيديو .. تعالي تعالي
- لكن أريد أن أسجل أول ظهور له على الشاشة لأحتفظ به
- اطلبي منه يأتيك به مسجلاً جاهزاً من التليفزيون تعالي تعالي
وجلست إلى جواره على أريكتنا المريحة في حجرة المعيشة وبدأت مقدمة البرنامج في الظهور وعيناي ترقبان الأسماء والصور حتى لمحت اسمه الغالي
إعداد وتقديم : عمرو سيد طاهر
ولدي ... حبة قلبي ...وما إن أطل على من الشاشة وهو يقدم لبرنامجه السياسي بلغة انجليزية متقنة ... ويعلن عن اسم ضيفه الكبير : السفير البريطاني في القاهرة وقد جلس الرجل أمامه بسعادة .. وبدأا يتبادلان الأسئلة و الإجابات والتعليقات الضاحكة أحياناً .....
صنعت الدموع على عيني شاشة أخرى ... مر عليه فيلم .. بل حلم حياتي كلها
رأيتني حين قبلت الزواج من زوجي هذا وقد كان فى بداية حياته مدرساً بسيطاً ولكنه أظهر رجولة وشهامة وحناناً في تعاملاته كلها فوافقت أن أتزوجه .. رغم تحذيرات أخي الأكبر من صعوبة الحياة التي سوف ألاقيها معه وحرماني من أشياء كثيرة اعتدت عليها فى بيتنا البسيط ..
وتعاهدنا أن نكون كما يقول التعبير : ستر وغطا على بعض
إذا أكلنا أو جعنا .. إذا خرجنا أو ظللنا حبيسي الشقة الصغيرة من قلة ما في أيدينا ...
أرى أيامي الكثيرة وأنا أغالب رغبتي في فستان جديد ... لا لشيء إلا لأن فستاني القديم لم يعد يصلح للخروج به .. وكرامتي التي تمنعني أن أطلب من أختي ملابسها التي توزعها على الجمعيات الخيرية .. ليس تكبراً بل حفاظاً على كرامة حبيبي زوجي ..
ثم أرى عقد العمل في الكويت ... وفرحتنا التي أطارت النوم ..والسفر وركوب الطائرة لأول مرة .. والمال الذى بدأ يظهر فى أيدينا .... وطفلاي اللذان أضاءا الدنيا من حولي
وفي كل عام حين نعود في الأجازة نسمع نصائح الأهل في كيفية استغلال هذا المال
اشتروا أرضاً وابنوها .... مدينة نصر لها مستقبل كبير ..... لأ الهرم وفيصل
اشتروا أرضاً زراعية وابعدوا عن صداع المستأجرين .... سعرها يزيد كل يوم
ضعوها في الريان ... يعطي ربحاً كبيراً كل سنة ( وقد كانت هذه الفترة هي قمة المجد لشركات توظيف الأموال )
وحين كنت أسأل زوجي لم يكن يستطيع أن يقرر .. فالمال الفائض جديد بين أيدينا ....
أما أنا فكان لدي حلم كبير وكنت مصممة على المضي فيه ولكنى لم أعرف كيف أعرضه على زوجي .... أردت أن أستثمر المال في الولدين ... ليحصلا على أعلى وأغلى تعليم وتربية في الدنيا ... وهذا ما سيفتح لهم أبواب الشقق والأراضي والفيلات في المستقبل ....
وحين اقترب عمرو من سن دخول المدرسة جلست بهدوء مع زوجي وأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى .. كيف أطلب منه أن يضع كل ما كافح ليجمعه في مصاريف مدرسة ؟؟؟؟؟
كيف أقنعه أن الناس ترسل أبنائها إلى الخارج ليعودوا بشهادات تساوي ثقلها ذهباً ونحن في بلد أكرمنا الله أن فيه أحد هذه المعاهد التعليمية العالمية ؟؟؟؟
أرى الآن نظرة عينيه المتفحصة في وجهي وشفاه تكاد تقول : هل جننت يا امرأة ؟؟ ولكنه صمت ولم يزد على قوله سأستخير وأذهب وقد يرفضوه لكونه ابن رجل مصري بسيط
ولكن هذا لم يحدث .. فلقد اختبروا ولدي الأول ثم بعدها بسنتين الثاني وقد قبلوهما وتم إدراجهما في منح التفوق لما أثبتاه من جدارة وكفاءة ....
وكنا كلما عدنا إلى القاهرة في الصيف أسمع تعليقات أهلي وأهل زوجي .... وأرى مصمصة الشفاه على أحوال هذه الأسرة المجنونة التي لم تتملك لا قيراطاً ولا أمتاراً .... كثيراً ما راودني الشك في هذا الحلم من كثرة الانتقادات التي تعرضت لها ... وأكثر منها قلق زوجي وتعليقاته ولكنه كان يلين حين يرى الأبناء وكيف يتصرفون فى الأمور الحياتية العامة ويتحدثون عنها ..
وها هو عمرو ولدي الأكبر .... دبلوماسي شاب ... اختارته قناة النيل الدولية ليقدم برنامجاً حوارياً مع كبار الشخصيات الأجنبية .... واليوم هو أول ظهور له وضيفه هو السفير البريطاني
- هييييه ... إلى أين سافرت بخيالك يا نعمة ؟؟؟؟ إلى الحاجة أم سيد بجلبابها البسيط وحفيدها يجلس رأساً برأس مع سفير المملكة العظمى؟؟؟ أم إلى شقتنا ذات الحجرتين ؟؟ والله كانت أياماً حلوة .. بس لو كان لدينا مكان لهذه الأريكة المريحة ..
- ضحكت وسط دموعي .... كانت شقتنا هذه هي كل ما حصلنا عليه بعد عشرين سنة من العمل في الكويت ... بم يقيسه الناس بالمال ... أما كنزنا الكبير فكان عمرو الدبلوماسي السياسي المحاور .. وضياء مهندس البترول في .... لا ليس في الكويت ... بل في قلب كاليفورنيا ..